عندما نتحدث عن السعادة، فإننا نتحدث عن الشعور العميق بالرضا، عن الفرح، وعن التوازن الداخلي الذي يبث في الروح حالة من السكينة والانبساط.
في ورشة عمل خلال اجتماع للمعلمين، قامت المستشارة التربوية بعرض عبارات على طاولة مستديرة تتوسط قاعة الاجتماع، ليقوم كل معلم ومعلمة باختيار العبارة التي تتحدث إليه وتهمس في وجدانه، وعرض ما اختار على الآخرين بكلمات تفصح عن كنه اختياره.
كان الأمر شيقاً للغاية؛ فقد توزعت العبارات ما بين جمل إدارية مهنية تحدثت عن نتائج وتحصيل ونجاح ومهنية، وما بين جمل تحمل معاني إنسانية تتحدث عن علاقات بين العاملين واحتياجات تتعلق بالمشاعر والاحترام والتقدير.
لفت نظري أن النسبة كانت لصالح العلاقات الإنسانية بمعدل 80% مقابل 20% للأمور الإدارية.
وفي اجتماع آخر مع زملائي مديري المدارس، تفاخرت مبتهجة إحدى المديرات بنشاط بسيط أدى إلى مردود عظيم حسب تعبيرها، وهو ببساطة متناهية: استقبال المعلمين في صباح يوم من أيام الأسبوع بالورود والابتسامة. تحدثت عن الأجواء الجميلة والمناخ الجيد الذي يسود المدرسة في ذلك اليوم بالذات؛ فقد شعروا بالتقدير والاحترام والسعادة بمجرد أن مديرة العمل عززتهم بكل بساطة بوردة وابتسامة تدلان على الرضا والقبول والابتهاج، لتحقق جزءًا من مبدأ السعادة.
في كل مرة تثبت لنا التجارب أن إلتون مايو، صاحب نظرية العلاقات الإنسانية، كان على حق عندما اعترض على النظرية الإدارية لصاحبها تايلر.
لقد ادعى تايلر أن العامل يشبه الماكينة، وتُحركه المادة؛ كلما زدت في أرباحه زادت إنتاجيته. ليأتي إلتون مايو ويثبت أن الإنتاجية ترتفع كلما تم توطيد العلاقات الإنسانية بين العاملين وتحسين ظروفهم الإنسانية. وقد أثبت ذلك من خلال تجارب عديدة عُرفت بـ"تجارب هاوثورن" المشهورة.
وفي دراسة أُجريت في بريطانيا عن اهتمامات العاملين، تبين أن العلاقات الإنسانية والظروف الجيدة للعمل هي في سلم أولويات العاملين، بينما جاء الراتب الشهري متأخرًا في المرتبة الرابعة.
من هنا نعرف أين تكمن السعادة بالعمل.
السعادة ليست أمرًا يتعلق بالحسابات المادية، مع العلم أنها ضرورية.
السعادة بالعمل ليست أمرًا يتعلق بظروف ميكانيكية جامدة. لا يمكن أن يكون صاحب الراتب العالي سعيدًا بعمله، وفي ذات الوقت لا يشعر بالتقدير والاحترام.
السعادة بالعمل هي الاهتمام بالظروف الإنسانية من خدمات ونظافة وإضاءة وترتيب ونظام واستقبال ومحادثة واحتواء وشعور بالآخر.
هي مجاملات بين الأقران، وحديث بين الأنداد.
هي آذان صاغية بين الأصحاب النابهين، واستجابات متبادلة من المدير والمرؤوسين، ومشاركة بالنشاطات مع الفاعلين، والاهتمام باحتياجات العاملين، ودعم مبادرات المتميزين.
هي رفاه العاملين واحتواء المدرسين.
هي تعزيز الفرد وتحفيزه وتشجيعه وتقديره.
هي حالة الارتياح والقبول عن إشباع الحاجات والرغبات والعقول.
هي الجودة الداخلية للحياة الوظيفية.
هي الحالة المسؤولة عن وضعية نفسية مريحة، والتي تكسب العاملين القدرة على التكيف مع بيئة العمل؛ مما يؤدي إلى إمكانية أكبر للتحكم في عملهم وما يحيط بهم.
وهذا ما يبث فيهم الرغبة في الإبداع والابتكار، وزيادة مستوى الطموح والتقدم، ويجعل الموظفين أكثر تركيزًا على عملهم؛ مما يزيد من ارتفاع الإنتاجية، والتي تزيد الرغبة في الإنجاز وتحسين الأداء.
وتساهم بشكل كبير في تخفيض معدلات التغيب عن العمل، والتذمر، والتمارض، والشكاوى، وارتفاع مستوى الولاء والثقة بالمسؤولين؛ مما يسهل عملية توجيه سلوك العاملين نحو تحقيق الأهداف.
وتقلل من مظاهر الوصول المتأخر، والغياب المتكرر. وتكلف التمارض والتعللات والمعاذير.
هذه القطرات الإنسانية تتجمع وتتراكم لتحدث حالة من المودة، والتعاون، والنشاط، والانتماء، والتي تكون لوحة من النجاح والتألق؛ مما يزيد ابتهاج العاملين في نشاطهم، ويبعث بالروح الأمل، ويحقق مبدأ السعادة.
إن توفير بيئة داعمة للشعور بالسعادة أمر مهم جدًا، وهي ليست مهمة المدير لوحده؛ لأنها تحتاج إلى القبول والقناعات.
فكما أنها في أمس الحاجة لقناعات المدير؛ لأنه الأوسع يدًا والأكثر تأثيرًا، ويتوجب عليه أن يؤمن بفكرة سعادة الموظف والمردود الإيجابي لهذا المناخ والعمل على تحقيقه، فهي في أمس الحاجة أيضاً للعاملين، المطالبين بعقد النية للقبول، والتخلص من الشكوك واستصدار المظالم، والعيش في دائرة صغيرة يطوفون بداخلها، مصطحبين أتعابهم، ومصورين عالمًا منحسرًا بعيدًا عما تمتلئ به الحياة، وكأن حظًا قد غادرهم، وأملاً قد فارقهم.
السعادة تحتاج إلى بساط أحمر يمده الجميع بين الأضلاع في قلوبهم، ليسيروا عليه مبتهجين، مستقبلين، فرحين، مستمتعين ببيئتهم، راضين بعملهم.
هذه المطالب لا تتحقق إلا من خلال مناخ يوفر حالة من الابتهاج المعنوي.
فحينما ينطلق العاملون بشوق ورغبة لممارسة أعمالهم، فإنهم يتفاعلون مع كل رسالة، ويستقبلون بروحهم كل مهمة.
يقول كومنيسيوس في كتابه نظرة إلى فلسفة التعلم والتربية:
"المعلم الذي لا يعشق عمله، ولم ينتخبه عن رغبة ذاتية وشوق باطني، لهو أشد خطورة على التعلم مهما كان صاحب تجربة في مهنته".
يا صاحبي:
اجمع ذاتك، واعشق عملك؛ ليرتفع قدرك، ويعلو شأنك، وتسعد بوقتك.
د. محمود علي جبارين
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات