خبر مفاجئ، لكنه في الحقيقة لم يكن مفاجئا لأحد، هكذا علَّق الكثيرون تفاعلا مع أنباء مقتل "يفغيني بريغوجين"، القائد السابق لمجموعة فاغنر الروسية، في حادث تحطم الطائرة التي كانت تقله رفقة 9 أشخاص آخرين، وهكذا علق البيت الأبيض الذي أخبرنا أن واشنطن سبق أن شاهدت هذه الحلقة المثيرة في المسلسل الروسي المستمر.
تقول المعلومات الأولى إن الطائرة التي أقلعت من مدينة سان بطرسبرغ متوجهة إلى موسكو نحو الساعة السادسة مساء بتوقيت روسيا، اختفت من على الرادار بعد قطع 180 كيلومترا فقط دون معرفة السبب، لتظهر صور حطامها بعد ساعة واحدة فقط دون معرفة أسباب هذا التحطم أيضا. أعلنت السلطات الروسية إثر الحادثة فتح تحقيق حول "احترام شروط سلامة الطيران"، فيما ينتظر الجميع الخبر اليقين الذي قد لا يأتي أبدا حول ما حدث حقيقة.
تناقلت وسائل الإعلام الصور الحية، مشاهد سقوط الطائرة الخاصة التي كانت ملكا لبريغوجين وهي تهوي بشكل عمودي بجناح واحد. انتشرت التكهنات والتخمينات التي غالبا ما كانت تدور حول رواية واحدة ليس لها ما يؤكدها حتى الآن، ألا وهي أن نهاية رجل فاغنر القوي -حسب أشهر الروايات حتى الآن، حيث لم يتأكد خبر مقتله حتى كتابة هذه السطور- بشكل رسمي جاءت بالضرورة بأوامر من رجل روسيا القوي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، انتقاما من التمرد الذي قاده طباخه السابق قبل شهرين بالتمام والكمال من وفاته، الذي زعزع الجبهة الداخلية الروسية، ما أثر على أداء قواها على أرض أوكرانيا التي تخوض حربا فيها منذ 24 فبراير/شباط 2022.
قبل غزو روسيا لأوكرانيا، لم يكن بريغوجين وجها معروفا بشدة كما هو الآن، رغم أنه كان يقوم على دعم المصالح الروسية عبر تزعم مجموعة المرتزقة الشهيرة "فاغنر"، التي كانت تشارك بجندي واحد من أصل كل 5 جنود وضعوا أقدامهم في أوكرانيا بأوامر من الكرملين، كما لا يخفى على الجميع الدور الكبير الذي لعبه رجال فاغنر في مناطق أخرى مثل أفريقيا وسوريا وليبيا على سبيل المثال لا الحصر.
شكَّلت الحرب الأوكرانية الحلقة الأخيرة في مسلسل العلاقة القريبة جدا التي جمعت ذات يوم بريغوجين ببوتين، بعد أن خرج (2) الأول في أحد المقاطع غاضبا من قيادات الجيش الروسي ومن بوتين نفسه (رغم عدم تصريحه بذلك)، بسبب عدم مدّه بالأسلحة والذخيرة الكافية، وهو ما جعله يقدم رجاله المقاتل تلو الآخر كخشب للنار المندلعة في أوكرانيا وأوروبا. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تواصل التصعيد ليصل إلى تمرد بريغوجين وقواته إلى درجة أنهم أصبحوا على مرمى ساعتين فقط من العاصمة موسكو، قبل أن تنتهي الأزمة بوساطة من الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الذي ضمن لبريغوجين اللجوء إلى بلاده مقابل سحب قواته.
كان بريغوجين غاضبا من الطريقة التي تعاملت بها موسكو مع قواته، وهي التي تمكنت من السيطرة على مدينة باخموت التي ظلت عصية على الجيش الروسي بسبب مقاومة الجيش الأوكراني المدعوم غربيا، لكنه في الأخير ظهر مبتسما في سيارته كأنه تمكن من لي ذراع بوتين، أو كاد. لم يكن هذا هو الخطأ الوحيد القاتل الذي اقترفه بريغوجين، الأدهى منه والأمر هو التشكيك (3) في الرواية الرسمية الروسية التي قالت في البداية إن الدخول إلى أوكرانيا يأتي للدفاع عن موسكو من النازيين الذين باتوا يهددونها، وهو ما تساءل قائد فاغنر عن مدى صحته، معتبرا أن روسيا تواجه أحد أقوى الجيوش في العالم، مُبديا تشاؤمه من المستقبل الذي لا يبدو مشرقا لموطنه الذي قد ينتهي به المطاف منهكا وضعيفا ومستنزفا.
إذا كانت هذه النقطة هي حلقة النهاية بين بوتين وبريغوجين، فإن حلقة البداية تعود إلى سنوات التسعينيات، حينما التقى الرجلان لأول مرة بينما كانت روسيا تشهد الأيام الأخيرة للاتحاد السوفيتي، قلعة الشيوعية في العالم. ينحدر الرجلان من المدينة نفسها -لينينغراد سابقا- التي أصبحت تحمل الآن اسم "سان بطرسبرغ"، حينها كان بريغوجين يبحث عن طريق يحقق به الوعد الذي قطعه على نفسه أمام والدته بأن يملأ بيتها مالا، فيما كان بوتين يشغل منصب عمدة المدينة.
أمضى بريغوجين قبل ذلك مدة 9 سنوات في السجن بتهم الاحتيال والسرقة واستعمال قاصرات في الدعارة، وخرج إلى عالم ما بعد السجن مفتتحا كشكا لبيع النقانق، لكنه بقدرة قادر، تحول إلى أحد ملّاك مطاعم علية القوم، الذين يأتون لأكل الأطباق اللذيذة وتذوق الخمور العتيقة، في هذه المطاعم التقى بعدد من رجال الدولة الروسية الذين ساعدوه بعد ذلك على مد جذوره الاقتصادية، وتقول بعض المصادر إن بوتين كان أحد زبائنه، وهنا حدث اللقاء.
طرق الغنى باب بريغوجين بعد تمكن شركته "كونكورد" من الحصول على العديد من العقود العمومية لتقديم الوجبات للمدارس العامة، بالإضافة إلى تقديم التموين الغذائي للجيش الروسي نفسه، والأهم من كل ذلك الإشراف على تحضير وجبات طعام المناسبات في القصر الرئاسي الروسي "الكرملين"، حيث أظهرت العديد من الصور حضور بريغوجين بوصفه طباخا للرئيس حين استقبال الأخير للرؤساء والشخصيات المهمة. تمكن طباخ بوتين من جمع الكثير من المال من هذه المشاريع، فقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الرجل تمكن من كسب 3.1 مليارات دولار خلال السنوات ما بين عام 2013 وعام 2018.
خارج حدود المطبخ، حاول بوتين تجنب الظهور برفقة بريغوجين طيلة سنوات، منذ أن ترك الأخير التمويل الغذائي وتوجه للحروب والسلاح عبر قيادة عدد من الشركات العسكرية الخاصة التي تُوظف "المرتزقة"، وآخرها فاغنر التي كانت تُعَدُّ حتى أسابيع قليلة ماضية الجيش غير الرسمي لروسيا، الذي يقوم بـ"العمل القذر" الذي لا يرغب الرئيس الروسي أن يتورط فيه جيشه النظامي، خصوصا أن بريغوجين خريج سجون، يتحدث ويتصرف كالسجناء السابقين، وهو ما مَكَّنه من اقتحام السجون، والاستعانة بالسجناء أنفسهم للتجنيد في فاغنر، والاستفادة من ماضيهم الإجرامي في مناطق النزاع مقابل المال.
كرر بوتين في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة أنه لا علاقة لروسيا بفاغنر، وأن المرتزقة الروس لا يمثلون بلاده ولا يدافعون عن أجندتها ولا يخدمون مصالحها، بل إنهم غير قانونيين في روسيا، لكن واقع الحال يقول عكس ذلك تماما، ففاغنر متورطة في العديد من البقاع التي قاتل فيها الروس من أوكرانيا إلى أفريقيا الوسطى مرورا بليبيا والسودان.
بجانب صور المقاتلين في كل هذه النقاط، هناك أمور أخرى تثبت علاقة بوتين ببريغوجين، من قبيل الوثائق التي وصلت إليها قناة "آرتي" الفرنسية ـ الألمانية التي كشفت عن أجندة مواعيد زعيم فاغنر في الفترة ما بين عامي 2012-2021، حيث سجل بريغوجين خلال هذه الفترة على مفكرته 37 موعدا من "الكرملين"، و6 مواعيد مع بوتين شخصيا، و62 موعدا مع "ديميتري بيسكوف"، الناطق الرسمي لبوتين، بجانب 27 موعدا مع "سيرغي شويغو"، وزير الدفاع الروسي، و9 مواعيد مع "فاليري غيراسيموف"، رئيس الأركان الروسي ومدير عمليات حرب أوكرانيا. وللمعلومة أيضا، يُعَدُّ جيراسيموف صاحب الحبل السُّرِّي الذي يُبقي فاغنر على قيد الحياة، وهو أحد الرجلين اللذين نالا نصيبا وافرا من سباب بريغوجين في الفيديو الشهير، كما أن بعض التسريبات أكدت أن القائد الروسي كان قد بدأ بالفعل التفكير في عملية تحجيم فاغنر في أبريل/نيسان 2016، لكن الحرب الأوكرانية بعثرت الأوراق وجعلت فاغنر أكثر أهمية بكثير.
شكَّل بريغوجين، بجانب كل ما هو عسكري، نظاما كاملا خاصا بفاغنر، نظاما يضم مخابرات داخلية تهدف إلى مراقبة أعضاء المجموعة والتدخل في حال التجاوزات، كما سبق أن حدث في عام 2017 حينما تسرب فيديو يقوم خلاله مقاتلو فاغنر بتعذيب مواطن سوري والتنكيل به قبل الإجهاز عليه وتهشيم رأسه بمطرقة اتخذها بريغوجين وفصيله بعد ذلك رمزا لهم . حينها تحركت المخابرات الداخلية لفاغنر ليس من أجل معاقبة الفاعلين، ولكن من أجل معرفة طريقة تسريب الفيديو، الأمر نفسه سيتكرر في بلدان أخرى من قبيل السودان وأفريقيا الوسطى حينما حاول رجال بريغوجين خنق فضائح اغتصاب قام بها المقاتلون عبر رشوة الأسر لشراء الصمت.
وبينما نحن نتحدث عن المصالح الروسية، لا يمكننا نسيان إحدى أهم القضايا التي يُتهم بريغوجين بالتورط فيها، ألا وهي التدخل في نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2016 التي أتت بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. وتقول التحقيقات الأميركية إن بريغوجين قاد حملة سرية على وسائل التواصل الاجتماعي تروج لدونالد ترامب وتهاجم منافسته حينها هيلاري كلينتون.
فاغنر الحقيقي
بعيدا عن بريغوجين، وبالقرب منه أيضا، وبالقرب من بوتين بالمناسبة، حملت لائحة قتلى تحطم الطائرة اسما مهما للغاية هو "ديميتري أوتكين"، صديق قائد فاغنر، والرجل الذي تعتبره بعض المصادر القائد الحقيقي للتنظيم الذي يحمل التنظيم اسمه في الحقيقة، لأن لقبه على أراضي القتال هو "فاغنر".
عندما يُذكر اسم أوتكين، فنحن لسنا بصدد الحديث عن رجل عادي، بل عن ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية الروسية، ومعجب حد الثمالة بالرايخ الألماني الثالث وبقائده الشهير أدولف هتلر، يظهر هذا الإعجاب خلال الأوشام التي تكسو جسده، حيث نجد رمز قوات الأمن الخاصة النازية (S.S) بجانب النسر النازي الشهير. (13)
وُلد أوتكين في مدينة أسبست بمنطقة سفيردلوفسك، ودخل مدرسة كيروف العليا لقيادة الأسلحة المشتركة، وشارك في الحرب الروسية الشيشانية الأولى ثم الثانية. أُرسل إلى الحدود الروسية الإستونية للعمل في سلك المخابرات، لكنه طيلة 10 سنوات كان يحس بأن هذا العمل لا يناسبه، لأنه مقاتل يحب الميادين والدماء والبارود. سيأتي له ما أراد في عام 2013، حينما التحق بالفيلق السلافي الذي توجه للقتال في سوريا رفقة قوات الأسد، وبعد إنهاء مهمته هناك عاد المقاتل الروسي إلى بلاده قبل أن يجد عملا آخر في أوكرانيا هذه المرة خلال الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2014، بعد أن كانت روسيا في حاجة ماسة إلى أيادٍ مقاتلة تدعم "الانفصاليين" في إقليم الدونباس. (14)
سيختفي أوتكين اختفاء كاملا ما بين العامين 2014-2016، لدرجة ستدفع زوجته للخروج في برنامج تلفزيوني لطلب المساعدة في البحث عنه. لكن في مارس/آذار 2016، سيظهر المقاتل في سوريا تحت راية مجموعة "فاغنر" لـ"مساعدة القوات السورية في مواجهة التنظيمات المسلحة" وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية، وبعد 9 أشهر، سيعود أوتكين إلى روسيا، هناك حيث سيستقبله الرئيس الروسي مقلدا إياه وسام الشجاعة، ليختفي بعدها مجددا. (15)
سيظهر اسم "فاغنر"، الشخص لا التنظيم، في عام 2023 في ثلاث مناسبات؛ الأولى حينما سيرد اسمه ضمن لائحة العقوبات الأميركية الموجهة لمقاتلي فاغنر، ثم الثانية حينما سيكون القائد الميداني لرجال فاغنر المتوجهين نحو الكرملين، ثم الثالثة حينما هوت طائرة من السماء كانت تقله مع 9 أشخاص آخرين، معلنة وفاته على أرجح الروايات حتى الآن، رفقة رفيق دربه بريغوجين، لتُنهي هذه الوفاة مسيرة جزء من تاريخ فاغنر، وتفتح الباب لأسئلة كثيرة حول حقيقة ما حدث، إلا أن شيئا واحدا يتأكد يوما بعد يوم: في روسيا لا مكان لقيصر ثانٍ مع بوتين.
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات