في ساعات العصر المتأخرة ليومٍ من أيام القدس، وبينما بدأ حضورُ المارّة الفلسطينيين في شارع الواد بالانخفاض تدريجياً، جَلَسَ عددٌ من شبيبة المستوطنين، تبدو عليهم علاماتُ المراهقة الأولى، خَلف مصطبةٍ حجريّةٍ تَفْصِلُ بينهم وبين “الزبائن”، يُقدّمون لهم ما يطلبون.
من فوق رؤوسهم تتدلى أعلامٌ بالأزرق والأبيض، تَعلوُها صورةٌ بانوراميةٌ للقدس تحملُ عبارة: “الزاوية الدافئة: أُقيمت بمبادرة شبيبة البلدة القديمة لرفاهية قوات الأمن والصاعدين [الحجاج] إلى القدس”.
كان آخر العقارات الفلسطينية التي انتقلت إلى سطوة الجمعية، العقار المعروف بـعقار عائلة “جودة” في حيّ عقبة درويش، بالإضافة إلى نشاطها المستمر للسيطرة على عقارات أخرى في حيّ بطن الهوى في سلوان.
شارع “سَرَق” الحياة من “الناس”!
يقع هذا “المَعلم” بالقرب من البؤرة الاستيطانية التابعة لذات الجمعية “بيت فيتنبرج” Wittenberg House، والمعروفة شعبيّاً بـ”دار شارون”، في شارع الواد، أحد الشّوارع التجاريّة والسكنيّة الرئيسة في قلب بلدة القدس القديمة. شارعٌ مزدحم بالتّاريخ النضاليّ، يشهدُ عليه أكثرُ من نصبٍ تذكاريٍّ إسرائيليّ، وممتدّ -جغرافياً- من مفرق باب العامود شمالاً حتى ساحة البراق جنوباً، مارّاً من دربِ الآلام ومن أبواب المسجد الأقصى الغربيّة، ومن مداخل حاراتٍ عدّة في القدس.
افتَتحتْ “عطيرت كوهنيم”، بالتعاون مع منظمةٍ شبابيّةٍ صهيونيّةٍ: “شبيبة حوض البلدة القديمة”، هذا الدّكان في 22 مارس/ آذار 2018، وهو امتدادٌ لدّكانٍ صغيرٍ غير منتظم العمل افتتح قبل 3 سنوات ونصف، في ذات المكان، بعد عملية مهند الحلبيّ. مستقبلاً، تخطط الجمعية الاستيطانية لتوسيعه وتحويله إلى مقهى.
عن الافتتاح الأخير للدّكان الثابت والموّسع، قالت “عطيرت كوهنيم” إنّه يعكس “رغبةً في إضافة معاني الحياة لشارع الواد، والحفاظ عليه كطريق رئيس للزوار والمصلين [اليهود]، ولتعزيز العلاقة الأبديّة بين الشعب اليهودي والقدس”.
يُقدّم الدّكان المشروباتِ الباردةَ والسّاخنةَ والمأكولات الخفيفة بأسعار مُخفّضة للمستوطنين المارّين من المكان في طريقهم للصلاة أمام حائط البراق، ولجنود الاحتلال الذين يسهرون على حراستهم.
في حفل الافتتاح، الذي حضره عددٌ من الحاخامات وشخصيات عامة إسرائيلية وما يقارب 200 من شبيبة المستوطنين، قال أحد ناشطيهم: “سنحوّل هذا المكان الجديد إلى دكان ناجح اقتصادياً، في هذا الشارع الذي سرق الحياة من الناس، سنهتم أن تكون هناك نقطة حياة يهودية مفتوحة 24 ساعة/ 7 أيام”.
بعد شهر من افتتاحه، افتخرت الصحافة الإسرائيلية المقربة من تلك المنظمات الاستيطانية بأن أكثر من 50 ألف مستوطن زاروا الدكان أو اشتروا منه.
بالتأكيد، لم يحتج كل هؤلاء، الخمسين ألفاً، إنْ صحّ كلامهم، شراءَ أي شيءٍ من بضائع هذا الدكان المحدودة، ولكن جاءت بهم حاجة أخرى إلى هناك، عبّرت عنها “عطيرت كوهنيم” في تصريحها بأن هذه “الزاوية الدافئة” مساهمة في “الطريق الطويلة لتحصين القدس”.
تتحوّل هنا كأس القهوة أو زجاجة العصير إلى وسيلة لتوفير الأمان الحاضن للمستوطنين، الذين يمرّون من هناك. بمعنى آخر، يتحول هذا الدّكان إلى “حصن” أو “نقطة مراقبة عسكرية” تشترك مع دوريات حرس “الحدود” في مهمة “توفير الأمن وتعزيزه”. عبّر عن ذلك أحد المستوطنين في تقرير صحافيّ إسرائيلي بالقول: “الآن بما أننا نعرف أنكم هنا [في هذا الدكان] كل الوقت، لن نخاف بعد اليوم من المرور عن طريق باب العامود [في الطريق إلى حائط البراق]”.
محاولات “ضبط” شارع “مهند الحلبي”
إنّها مهمة تصاعد إلحاحها تحديداً بعد عملية الشهيد مهند الحلبي في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 2015 في ذات الشارع، وبعد تصاعد الهبّة الشعبيّة. على إثر ذلك، اشتغل الاحتلال على ضبط الحيز الجغرافيّ في موقع العملية، بما يعزّز وجوده وسيطرته الأمنية وحضوره اليومي.
تكثفت بعدئذ الدوريات العسكريّة التي تمرّ من نفس الشارع، وتزايد عدد الجنود الموجودين على مفترقات الطريق. على صعيد الحضور اليوميّ، سمحت شرطة الاحتلال حينها للمستوطنين بإقامة بيت العزاء لقتلاهم في عملية الحلبيّ في الشّارع نفسه. هكذا قُسِّم الشّارع، لسبعة أيام، مدة العزاء عندهم، إلى ثلاثة أثلاث: ثلثان للكراسي التي يجلس عليها المعزون والمنتحبون، وثلث للمارة، الفلسطينيين.
كان ذلك الأسبوع محاولة لفرض الوجود الإسرائيلي في الشارع بأية وسيلة، تعمّد المستوطنون رفع أصواتهم أثناء الصلاة أو البكاء أو الحديث، وحرص وزراء وأعضاء “كنيست”، كوزير الأمن الداخليّ جلعاد أردان على زيارتهم حينها، كما عَقَد أعضاءُ كتلة “البيت اليهودي” أحد اجتماعاتهم فيه، حضره وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بِنت.
في ذات العام وما بعده، تلاحقت العمليات الفدائية ضدّ المستوطنين وجنود الاحتلال في ذات الشارع. أسمّاه الفلسطينيون في أحاديثهم السرية شارع “مهند الحلبي”، وأسماه المستوطنون والإعلام الإسرائيلي بـ“شارع الدماء”. وفي كثير من تلك العمليات، كان يعود التكثيف الأمنيّ والحضور اليومي كوسيلةٍ للضبط وتأكيد السيطرة.
أمّا عديئيل كولمان، الذي يحملُ الدّكان اسمه، فليس بعيداً عن أجواء “العطاء الاستيطانيّ” في القدس، إذ كان ناشطاً في الحفريات الأثريّة التي تُجريها جمعيةٌ استيطانيةٌ أخرى هي جمعية “إلعاد” في وادي حلوة في سلوان، جنوب المسجد الأقصى، تحديداً في الموقع الأثريّ الذي تديره منذ أكثر من عشرين عاماً باسم “عير دافيد”، أو “مدينة داوود”.
قُتِل “كولمان”، الذي يعيش في مستوطنة “كوخاف هشاحر” (كوكب الفجر، المقامة على أراضي قريتي كفر مالك ودير جرير شرق رام الله)، في 19 مارس/ آذار 2018، في عملية طعنٍ نفذها الشاب عبد الرحمن بني فضل من قرية عقربا شرق نابلس، في شارع الواد نفسه، واستشهد على إثرها (ما زال جثمانه محتجزاً حتى اليوم). بعد مقتله، تكرّرت مظاهر فرض الوجود الاستيطاني في ذات الشّارع، كما حصل بعد عملية الحلبي، عن طريق إقامة الصلوات اليهودية والدروس الدينية وتأبين القتيل فيه.
أمام “دكان كولمان” تماماً دكان آخر مُغلق، يُخفي وراءه بقايا مقهى فلسطيني اضطر أصحابه إلى إغلاقه قبل حوالي 3 سنوات، بسبب تراكم ضريبة المسقفات “الأرنونا” عليه من قبل بلدية الاحتلال، وديون ضريبية إسرائيلية أخرى. انسحب الوجود الفلسطيني خطوةً لصالح الاستيطان. في بعض الأحيان تَجِدُ بعضُ الفلاحات الفلسطينيات أمام المقهى المُغلَق مساحةً مناسبةً لعرض بضائعهن من الخضار والفواكه، وربما هي مساحة للمارّة من الفلسطينيين، مساحة أمل بالصمود والبقاء، كأضعف الإيمان.
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات