قد لا نتخيّل اليوم كيف يُمكن للحياة أن تكون بلا مكيّفات في هذه الأيام من الصيف، بل يندر اليوم أن تجد منزلًا من المنازل بلا مكيّف وتجدنا نشتريها ونُكثر منها أحيانًا مع أنها تستهلك الكثير من الكهرباء وتُشكل عبئًا على ميزانيّة البيت. هذا غير الأضرار الصحيّة التي تسببها كأوجاع المفاصل والجفاف ثم أضرارها البيئية كمساهمتها في ظاهرة الجُزر الحراريّة في المدن.. نفعل كُل هذا وكأنه ليس هنالك بديل كما يعتقد أكثرنا.. وهذا ليس إلا لجهلنا بتراثنا المعماري وبمصطلحات كالملقف والباذهنج والبراجيل، والتي لها حكايات تستحق أن نعيها جيدًا.
مكيّفات العصر العباسي
تمامًا كما المُكيّفات اليوم، فإن الملاقف أو البراجيل أو الباذهنجات كانت من أهم وأبرز أجهزة التبريد التي عرفها الناس قديمًا وقد جاء في حكايات مدينة حلب التي ذكرها ابن الغزي أنه جاءها زمان لم يكن بها دار إلا وبها باذهنج.. وتذكر الدراسات أن الملاقف استخدمت في جميع المستشفيات في العصر العباسي وهو نفس العصر الذي تطوّرت فيه هذه الصناعة بشكل لم يسبق من قبل، حتى أن باحثين مثل حمدية صالح دلي نشرت بحثًا بعنوان: "أجهزة التبريد في العصر العباسي-البادهنج إنموذجاً" نقلت فيه أشعار تُبرز مكانة "الباذهنج" عند الشعراء كقول أحدهم:
هجا الشعراء جهلاً باذهنجي لأن نسيمه أبدًا عليل
فقال الباذهنج، وقد هجوه إذا صح الهوى دعهم يقولوا
فنون.. في تصميم الباذهنج
لعلّ أجمل ما في الباذهنجات هي أنها لم تكن تحتاج إلى توصيل بشبكة كهرباء ولم تكن تعتمد على غازات خاصّة لتشغيلها كما هو اليوم، بيد أنها كانت تتطلب مهارات خاصّة في علم العمارة والمناخ فنجد رسالّة للشيخ ابن المجدي بعنوان "تحفه الأحباب في نصب الباذاهنج والمحراب" يشكل فيها تفاصيل دقيقة جدًا تتعلق بتصميم الباذهنج.
وللإختصار فإن الباذهنج هو عبارة عن برج لالتقاط الهواء يكون على السطح وله أشكال وتصاميم عدّة، تختلف مع اختلاف الموقع الجغرافي والظروف البيئية، فقد يتكوّن من فوهة عليا مفتوحة من جهاتها الأربع، وقناة ناقلة للهواء إلى داخل الغرفة من خلال فترة على ارتفاع مترين من الأرض.. وهناك تصاميم أخرى تكون فيها الفتحة من جهة واحدة، وهي جهة الرياح السائدة، أو أن تكون القناة الناقلة للهواء مقسومة إلى ممرين بحيث يمرر الأول الهواء البارد، والثاني يقوم بنقل الهواء الساخن إلى الخارج، ومن ضمن المسائل التي ينبغي النظر فيها في التصميم هي فتحة التهوية وطول القناة "البرج".
من الأفكار المميزة التي يذكرها المهندس المتخصص بالعمارة الإسلامية يحيى وزيري، أنه وفي حالة سكون الرياح نهارًا فإن درجة حرارة سطح الملقف المائل ترتفع بسبب تعرضها لأشعة الشمس فتتكون منطقة ضغط منخفض عند فتحة دخول الهواء، مما يؤدي إلى سحب الهواء من داخل المبنى إلى الخارج، ويحل محلّه هواء بارد رطب من الفناء المظلل والمزود غالبًا ببعض النباتات والنوافير المائية، أما في حالة سكون الرياح ليلًا فإن الهواء البارد ينزل عبر الملقف إلى داخل المبنى تحت تأثير كثافته المرتفعة، ويخرج الهواء الساخن في فتحات الشخشيخة العلوية، والشخشيخة هي عنصر جمالي وبيئي مميز يساهم في تلطيف الأجواء، وفي تزويده بإضاءة طبيعية في النهار.
حسن فتحي.. شيخ المعماريين
بالإضافة إلى يحيى وزيري، فإن الكثير من المُهتمين بالعمارة البيئية حول العالم درسوا الملاقف دراسة عميقة، ولا تزال الدراسات تجري في هذا المجال حتى اليوم. وما يُلاحظ أن أحد أبرز الأسماء في العالم في هذا المجال، هو المعماري المصري "حسن فتحي" صاحب كتاب "عمارة الفقراء" الذي حظي بشهرة واسعة على مستوى العالم.
في هذا الكتاب يتحدث "فتحي" عن فلسفته في التصميم، وكيف يُمكن للعمارة أن تكون أكثر انسجامًا مع الإنسان والطبيعة من خلال تجربته في تصميم قرية القرنة الجديدة، ولا ينسى الحديث عن "الملقف" أو "مصيدة الرياح" كما يسميها والتي قام باستخدامها في المدارس بعد تطوير تصميمها، بما يتلائم مع طبيعة القرية حتى وصلت نجاعتها إلى خفض درجة الحرارة إلى 10 درجات مئوية.
يقول "فتحي": "قد استخدمنا في المدارس التي بنيناها في القرنة ملقف يتكون من مجرى للهواء يشبه المدخنة، له فتحة كبيرة بالأعلى تواجه الريح. وقد وضع بداخله صفيحة معدنية مائلة ممتلئة بفحم يمكن أن يتم بله بصنبور، وعندما يمر الهواء من على هذا الحاجز يتم تبريده قبل أن يدخل الحجرة" ثم يقترح: "من الممكن في التطبيقات المستقبلية للملقف أن يجعل الحاجز المبرد مرئيا ويُصنع من مادة ماصة مثل الحرير الصخري".
الملقف في العمارة المعاصرة
مع أننا اليوم نادرًا ما نرى المباني التي تستخدم الملقف كعنصر لتلطيف وتبريد الهواء في المباني والمنازل، إلا أن هذا لا يعني أنها غير موجودة، ففي مدينة مصدر وهي من المدن النموذجية التي تحاول الوصول إلى صفر انبعاثات، تم العودة إلى أفكار في العمارة التراثية الخاصّة بمنطقة الخليج، وتم اعتماد فكرة "البراجيل" لتكون ملهمة في تصميم نُظم التبريد، وقد جاء في تقرير لمؤسسة "كربون" أن استهلاك الطاقة في المباني التي تعتمد هذه التقنيات يصل إلى 50%.
قبل بضعة سنوات تم تصميم مبنى مركز التثقيف البيئي في مدينة سخنين في شمال فلسطين، وفق مبادئ المباني الخضراء، وقد تم استخدام الملاقف في التصميم بالإضافة إلى تقنيات بيئية أخرى يتم شرحها لآلاف الزوار الذين يزورون المركز كل عام. أيضًا في قطر نجد أن المهندس كمال كفراوي اعتمد على الملاقف خلال السبعينات من القرن الماضي من خلال تصميم مبنى جامعة قطر.
الملاقف في جامعة قطر
فكرة بُرج الرياح في مدينة مصدر
هذا الاهتمام العالمي بالملاقف والعمارة البيئية أدى مؤخرًا إلى ظهور أشكال مُختلفة و"سوبر مودرن" للملاقف، والتي لا نجدها في منطقة "الشرق الاوسط" فقط، بل حتى في دول مثل استراليا حيث تم تطوير نموذج لملقف حديث يساهم في توفير 80% من الطاقة التي يحتاجها المبنى، وبالإضافة إلى ذلك ظهر في سان فرانسيسكو ملاقف تجارية حديثة تدعى Monodraught.
أخيرًا، فإن ما يبعث على الأمل هو أن نجد هذا الاهتمام المتزايد والأبحاث النوعية التي تبحث هذه التقنية بشكل علمي يبتغي تطويرها وتحسين طرق الانتفاع بها، وليس مُجرد التغني بالماضي وأمجاده دُون القدرة على الاستفادة من المهارات التقنية التي تمتع بها أجدادنا. فنجد دراسات تستخدم الكاميرات الحراريّة للتأكد من فاعلية الملاقف، كما نجد دراسات تبحث في ملاقف تجريبية في مبان حديثة، هذا بالإضافة إلى الكثير من الدراسات من الشرق والغرب التي تجتمع على أن الوقت قد حان للعودة إلى هذه التقنيات العريقة.. من أجل مناخ ألطف وكوكب أفضل! ( المصدر: مجلة آفاق البيئة والتنمية الفلسطينية)
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات