حتى بعد سبعة عقود ورغم النتيجة المعروفة، يواصل دكتور أوري ميليشطاين، أحد أبرز المؤرخين العسكريين في إسرائيل وأكثرهم نقدا فتح ملفات الماضي من قبل 1948، وهذه المرة توقف عند كفركنا، بلدة فلسطينية قضاء الناصرة، مقدما رواية يعرفها الشيوخ من أهاليها.
ويقول ميليشطاين في دراسة جديدة إن الضابط دان لينر أحد قادة “البلماخ” (القوات الضاربة للهغاناه) قد أوكل الضابط أساف سمحوني قائد سرية ” أ ” من الكتيبة الأولى لـ”البلماخ” مهمة مهاجمة كفركنا في مارس/ آذار 1948 لاحتضانها مقر القائد أبو إبراهيم الصغير وتفجير المقر وعدد من بيوتها. موضحا أن مجموعات مسلحين بقيادة المجاهد أحد قادة “الجهاد المقدس” توفيق الإبراهيم أبو إبراهيم الصغير وضابط ألماني نازي يدعى “ماكس” كانت تنشط في قرى الجليل وفي كفركنا وقتها تم تقدير عددها بـ60 مسلحا.
ويزعم ميليشطاين أن أبو إبراهيم اختار كفركنا لاعتقاده أن الهغاناه لن تجرؤ على مهاجمة البلدة كونها بلدة مسيحية مقدسة وهذا اعتقاد ضعيف لأن مقار قوات الثوار كانت بعيدة عن الكنائس وثانيا لأنه اتخذ من بلدات أخرى “غير مسيحية مقدسة” مراكز لنشاطه في الجليل، كما يؤكد بعض أهالي البلدة ممن يؤكدون أن اختيارها لكونها معروفة بحمية رجالها.
وحسب دراسة ميليشطاين فقد استخف “سمحوني” بالمهمة ولم يعد لها، حيث قام قائد سرية ” أ” في الكتيبة 12 التابعة لـ”جولاني” بقيادة عامنوئيل يارديني معززة بدورية الكتيبة بقطع طريق كفركنا- الناصرة وتفجير الجسر المقابل لقرية المشهد المجاورة للحيلولة دون وصول مساعدات.
والتقى يارديني وسمحوني لتنسيق الهجوم واقترح الأول اصطحاب أشخاص يعرفون البلدة يقودون القوات ويرشدونها، لكن سمحوني رفض لأسبابه الخاصة فكان هذا أحد أسباب “العار الكبير”.
ويوضح ميليشطاين أن هذه كانت أول غزوة في “حرب الاستقلال” بالنسبة للسريتين المذكورتين فخرجت من قاعدتها سرية “البلماخ” (نحو 150 جندي) في حافلات عند الثامنة إلا ربع مساء وفي الطريق أخذت سرية “عيمق هياردين” وعند كيبوتس “دوفرات” انطلقت كل القوات مشيا على الأقدام مسافة 12 كيلومتر نحو الهدف وقبيل بلوغ كفركنا بكيلومتر ونصف الكيلومتر انشطرت القوة لقوتين وخلال التقدم الليلي أطلق جندي رصاصة بالخطأ ففقدت القوات المهاجمة عنصر المفاجأة.
وينقل ميليشطاين عن عضو “البلماخ” أفراهام أفيغدورف قوله في شهادته: “انطلقنا بباصات من كيبوتس بيت كيشت نحو كيبوتس “دوفرات” ومن هناك واصلنا سيرا على الأقدام وقبل وصولنا الهدف بـ60 مترا كشف أمرنا بسبب رصاصة أطلقها جندي بالخطأ وعندها تعرضنا لنيران شديدة وأصيب كثيرون منا. ويتابع ميليشطاين: “في تلك المرحلة أمر سيمحوني عدة مرات بالهجوم لكن أحدا من الجنود لم يفعل ذلك عدا هو نفسه كما يؤكد ضابط آخر شارك في العملية الفاشلة، طيبي شبيرا”.
وقام قائد الخلايا الأمامية بتبليغ سمحوني بأنه لا ينجح برؤية البيوت المستهدفة رغم إطلاق نار منها وعندئذ أمره بالانسحاب. ونقلا عن كتاب زئيف وتهيلا عوفر حول “الكتيبة الأولى” قامت فزعة عربية باقتحام حواجز “جولاني” وهاجمت قوات سمحوني من الأمام والخلف معا. ويتابع: “طلب سمحوني إذن الضابط المسؤول عنه دان لينر بالانسحاب لكن عوفر يارديني يروي رواية مختلفة: “عندنا لم يحصل شيء لأن أي مساعدات لم تصل. في اللحظة التي أبلغني بها أنه جاهز للانسحاب كان قد قتل عدد من جنوده وأخذ يلملم قواته على تل وأنا من جهتي بدأت بالتراجع. لم نفجر الجسر لأن التعليمات كانت أن نفجره فقط عند بلوغ مدد عربي فأخذنا المتفجرات معنا وعدنا بل لم نطلق رصاصة واحدة خلال العملية”.
ويميل ميليشطاين لتصديق رواية يارديني لأن الزوجين عوفر رغبا بتقليل حجم فضيحة “البلماخ” في كفركنا وينقل عن أفيغدوروف: “سمعنا تعليمات بالألمانية والكثير من الصراخ. أطلقوا فوقنا مصابيح إضاءة وأمطرونا بنيران الجحيم وخشينا أن نلقى مصير القافلة في منطقة غوش عتسيون. خلال الانسحاب تعرضنا عند كل منعطف لقوة معادية أطلقت الرصاص علينا وأصابوا المزيد من الجنود. بنهاية المطاف وجدنا ثغرة في الوادي وتسللنا منها”.
وينقل عن عاموس هرباز ضابط الاتصالات في وحدة سمحوني قوله: “لو لم ننسحب فلا شك أنهم كانوا سيقتلوننا في كفركنا”.
كما ينقل ميليشطاين عن بنحاس زوسمان قائد أحد فصائل الكتيبة قوله: “لاحقونا نحو عشر كيلومترات”. وفي الدراسة يقول أفيغدوروف المذكور أعلاه “قبيل الصباح كان في جانبنا جرحى كثر وسيارات إسعاف تابعة للبريطانيين ركنت بين الشجرة وبين بيت كيشت.. قتل منا جندي يدعى أفنير غروزمينسكي وأصيب أربعة جنود”.
معركة قاسية
ويوضح ميليشطاين بمراجعته النقدية لدفاتر المعارك الإسرائيلية أن سمحوني كتب في تقريره التلخيصي أن العدو تكبد عددا من القتلى والجرحى ولكن لم يكن لذلك صلة بالحقيقة بل كانت هذه شهوته، ويتابع: “لاحقا برر سمحوني فضيحته في كفركنا بالقول: لقد منعنا من المساس بسكان كفركنا كونها بلدة مسيحية مقدسة وهذا قيدنا لأننا اكتشفنا صعوبة التمييز بين بيوت المسيحيين وبين البيوت التي استخدمت كمقرات لرجال عصابة أبو إبراهيم الصغير. وهذا التباطؤ في الهجوم سبب انكشاف أمرنا مما أتاح للعصابة فرصة استدعاء المدد من كل المنطقة. شهدنا معركة قاسية جدا استمرت نحو الساعة ونصف الساعة. أبدى جنودنا شجاعة كبيرة وحسن تدبير وحيلة حكيمة”.
ويؤكد ميليشطاين أنه كان لسمحوني ولـ”البلماخ” ولرئيس حكومة إسرائيل الأول دافيد بن غوريون ولـ”مباي” مصلحة شخصية وجماعية بالتستر على عار وفضيحة الغزوة على كفركنا. لو كشف عن هذه المهانة ربما تكشفت حقيقة مهنية سمحوني وتم المساس بهيبة “البلماح” مثلما كان سيتبين أن “مباي” وبن غوريون لم يعدوا كما يجب الاستيطان اليهودي للحرب. بسبب مصلحة الكل بإخفاء الفضيحة تم طمسها”.
ويخلص ميليشطاين للقول إن عملية الهجوم على كفركنا وتحويل الجبن في ساحة المعركة لـ”شجاعة كبيرة وحسن تدبير” قد حال دون استخلاص الدروس الفورية بل صار جزءا من الثقافة الأمنية الحبلى بالمخاطر بالنسبة لإسرائيل والتي جبت أثمانا غالية، بحياة الجنود خلال حرب الاستقلال وفي الحروب اللاحقة”.
وتتطابق رواية ميليشطاين مع ما رواه بعض شيوخ أهالي كفركنا منذ سنوات.
قانا الجليل
ويؤكد الشيخ يوسف عبابسة أبو الولد لـ”القدس العربي” أن قوات أبو إبراهيم كانت تبيت في خيام على بيادر عائلة طه في كفركنا، فيما كانت قوات المجاهد صبحي شاهين من طبريا ونحو عشرين فدائيا يبيتون في بيت محمد لافي حمدان في تلك الليلة، منوها لفضل الكناوي حسين عطا الله الحارس المناوب للجهة الشرقية من كفركنا.
ويضيف: “اكتشف حسين عطا الله أمرهم وألقوا عليه قنبلة فأطلق النار عليهم وأخذ يصرخ مناديا أهل البلد الذين هبوا بما لديهم من مسدسات وبنادق وبنادق صيد هم وقوات الثوار وصدوا الهجوم”.
في كتابه “كفركنا: قانا الجليل بين الماضي والحاضر” جمع الكاتب ابن كفركنا اللاجئ في الإمارات مطر خشان عباس شهادات حول ما جرى، ويستذكر أن الهجوم المذكور على كفركنا تم في ليلة العاشر من مارس اذار 1948 وذلك بعد مشاركة أهالي كفركنا في واقعة عرب الصبيح في 03/01/1948 والتي قتل فيها سبعة جنود صهاينة (منهم ابن رئيس إسرائيل الأول يتسحاق بن تسفي) بقيادة المجاهد علي النمر ابن عرب الصبيح الذي استشهد في عملية لحركة فتح في سبعينيات القرن الماضي في الجليل الأسفل.
على خلفية ذلك رغبت الهغاناه بالانتقام من أهالي كفركنا ومن قوات أبو إبراهيم الصغير التي عسكرت في بعض بيوت كفركنا. لكن شباب كفركنا وجنود أبو إبراهيم كانوا قد علموا بالهجوم مسبقا وهاجموا قوات “البلماخ” شرقي جبل خويخة وساندتهم مساعدات من عين ماهل وطرعان والمشهد وظلوا يطاردونهم حتى كيبوتس كيشت كما يؤكد ميليشطاين أيضا. وفي الصباح شاهد عدد من أهالي البلدة آثار دماء على الأرض بطول طريق الانسحاب شرقا.
الغلبة رغم رداءة السلاح
ويوضح الشيخ أحمد محمد غنيوي طه أبو فتحي (91 عاما) لـ”القدس العربي” أن أهل كفركنا صدوا الهجوم الليلي رغم قلة ورداءة السلاح المتوفر لكنه يقول إنهم هبوا كعائلة واحدة وحموا انفسهم.
وتابع: “وقتها كنا نشارك في الحراسة بالتناوب وفي الدفاع عن بلدات مجاورة كالشجرة”، ويضيف: “تعرضت لطلقة قناص يهودي وقتها قد حركت عقالي عن رأسي ونجوت لحسن حظي. مع ذلك اعتقد أن بعض الأجانب المتطوعين في “الجهاد المقدس” أمثال ماكس ومارينو كانوا جواسيس متسترين بهوية ضباط نازيين لكنهم أتقنوا الدور”.
ويضيف: “أذكر مرة أن ماكس زارنا فجاة خلال نوبة الحراسة ووجد زميلي من كفركنا نائما فأشبعه ركلا وضربا”.
ومن الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من هذه الدراسة حيوية وصدقية الرواية الشفوية مقابل الأرشيفات كمصدر للكتابة التاريخية علاوة على إلقاء الضوء على الدور الحاسم للاستعمار البريطاني في نكبة فلسطين.
(القدس العربي)
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات