يوم الأرض ليس مناسبةً وطنيّةً عاديّةً، بل هو رمز للدم الذي سُفك من أجل الحفاظ على الأرض، ورمز للتشبّث بالهويّة والجذور. لذلك، فليس من العجيب أن يحافظ الفلسطينيّون أينما كانوا على إحياء هذه الذكرى منذ العام 1976 دون توقّف.
الأرضُ، تلك التي من جوفها خُلقنا، تمامًا كما من أجواف أمّهاتِنا خرجنا.
الأرض، تلك التي على خيراتها اقتتنا، تمامًا كما تغذّينا على الحبل السرّيّ في بطون أمّهاتنا.
الأرض تلك التي عليها نسكنُ وعليها نعيش، وعليها نُلقى أوساخَنا ولا نحترم بيئتها، وعليها نقلي ذنوبَنا فنُثقِلها بها، ومع ذلك تتحمّلُنا.
الأرضُ، تلك التي حينَ نموتُ وتودّعُنا حتّى أمّهاتُنا ولا تحتضننا ميّتين ويلفُظُنا كل شيء، فهي، وفقط هي التي تحتضنُنا رغم تعفُّننا في جوفها.
كانت هذه الذكرى مَعْلَمًا هامًّا في ثقافة جرحنا الفلسطينيّ إلى أن بدأنا بالتعامل مع الأرض تعاملَ الأبناء العاقّين مع أمّهم العجوز، ناظرين إلى ضعفها متعامين عن تضحيتها لأجلنا، متناسين أنّها أفنت شبابها في سبيلنا.
كانت البداية قبل حوالي ثلاثة عقود وربّما أكثر، حين بدأت بعض الأصوات تتعالى داعيةً للتعامل مع الأرض على أنّها مكانٌ لغرس الأشجار واستثمارها وإحياء ذكرى يوم الأرض على هذا الأساس.
فقد قيلَ ورُوِّج حينها أنّ التعامل مع الأرض يجب أن يكون بفلاحتها وزراعة الأشجار فيها، لا بالإضراب والتظاهر في يوم الأرض، الأمر الذي بدأ يأخذ شكلَ عيدٍ احتفاليّ كعيد الشجرة مثلًا، ويُبعد الأجيال الناشئة عن الجوهر الأساسيّ ليوم الأرض، ويجعلهم مغيّبين عن الحقيقة التاريخيّة التي صنعت هذه الذكرى.
لقد استطعنا أن نستبدل رائحة الجرح ببعض روائح الأزهار البلاستيكيّة والأشجار المزيّفة التي ما أذكر أنّ واحدةً منها عاشت وآتت أُكُلها.
ومرّت الأيّام، وتوالت الأعوام ونحن نتعامل مع هذه الذكرى بِحِمْيَةٍ قاسيةٍ حتّى فرّغناها من مضمونها. فكثير من طلّاب مدارسنا كانوا يحتفلون بيوم الأرض على أنّه يوم عطلة وليس إضرابًا لمناسبةٍ وطنيّة من الطراز الأوّل.
وكذلك، كثيرًا ما وقعت هذه المناسبة خلال عطلة الربيع، ممّا أزاح التركيز عليها، إذ إنّ المدارس هي مربط فرس هذه المناسبات عامّةً، وحين لا تنطلق هذه المناسبات من المدارس فإنّ حضورها يكون هشًّا لا قيمةَ له.
وهذا العام، في آذار 2019، نجد أن الأبناء العاقيّن يتصرّفون بغرابةٍ تجاه الأرض. لقد زجّوا بجرحهم في مؤسّسة للعجزة، كأنّهم ملّوا هذه المناسبة أو كأنّها أصبحت تشكّل حملًا ثقيلًا عليهم، أو كأنّها ضيفٌ غير مرغوب به في ذاكرتهم الجمعيّة.
وهذا ما يمكن أن نستشفّه من إلغاء بعض المسيرات لإحياء هذه الذكرى بحجّة الجوّ الماطر رغم دفء الجوّ وربيعيّته ولطفه.
وهذا الأمر يبدو غريبًا للغاية. فرغم أنّه بقي للانتخابات البرلمانيّة أقلّ من أسبوعين، وكانت هذه فرصة للأحزاب المختلفة أن تستغلّ هذه المناسبة للدعاية الانتخابيّة. وكذلك، رغم ما يحيط بنا من عنصريّة وقوانين عنصريّة صريحة وسافرة كقانون القوميّة وغيره، ورغم أنّ غول الهدم ومصادرة الأراضي والاستيطان والتضييق على الفلسطينيّين ما زال يكشّر عن أنيابه أكثر فأكثر كلّ يومٍ، رغم كلّ هذا وغيره، إلّا أنّ الأحزاب أشاحت بوجهها عن هذه المناسبة، كما أشاحت جهات كثيرةٌ ككثير من السلطات المحليّة ولجنة المتابعة واللجان الشعبيّة وغيرها من الأجسام التي من المفروض أن تكون في مقدّمة من يعملون على إحياء هذه الذكرى لترسيخ القيم الوطنيّة.
وبالمقابل، لم تُعطّل مباريات كرة القدم، لم تُعطّل الأعراس والمناسبات المختلفة، لم تُعطّل الزيارات، لم تُعطّل النزهات والجولات في الطبيعة لم تُعطّل إلّا الأرض، ولم يعد يُثقل كاهلنا إلّا الأرض.
نعم، فقد هرِمَت أمُّنا هذه وأصبحت ضيفًا ثقيل الظلّ، ألقينا به في مؤسّسةٍ للعجزة بعد أن أخذنا منها خيراتها، وبِتْنا نخجلُ بوجودها حتّى في ذاكرةِ جرحنا الفلسطينيّ.
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات