مع قيام الدولة الحديثة ازداد الحديث عن مفهوم المواطنة كهوية جامعة للمواطنين الذين يسكنون تلك الدولة، مع توسع في ذلك المفهوم ليصل لحالة استبدال للهويات الأخرى، وجعله مركز الهوية الجماعية للأفراد ومبعث تعاملاتهم، أو اقتصاره في بعض الأحيان على البعد الوصفي-القانوني المتصل بحال الناس كمواطنين بما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات من دون استبدال هوياتي جامح. ولكن على ماذا يرتكز مفهوم المواطنة؟ (بالمناسبة المقال ليس نقاشاً تقييماً حول جدوى وإيجابيات المواطنة من عدمها إنما تحليلاً لحالها في واقعنا).
البعد الأساسي لمفهوم المواطنة في العصر الحديث يتصل بما يذكره عدد من المفكرين الأوروبيين حول مفهوم العقد الاجتماعي والذي يرتب العلاقة بين الأفراد والدولة، والذي يعطي من خلاله الأفراد شرعية للدولة بانخراطهم بهذا العقد الاجتماعي المبني على توافقات متبادلة تُقر فيها الحقوق والواجبات، التمثيل ومنظومة من القوانين وقواعد اللعبة الضابطة للعلاقة بين الطرفين، وباتت تتجاوز ذلك في بعض السياقات لارتباطها بعوامل ثقافية، قيمية وسياسية.
إذاً مفهوم المواطنة متصل بكينونة الدولة ككيان سياسي، ومشروعية الدولة متصلة بمفهوم العقد الاجتماعي، فيما الأخير مرتبط بتفاهم وإعطاء المواطن ثقته بالدولة كممثلة له. في سياقات الدول الطبيعية يكون هناك تجانس بين الدولة والوطن والمواطن بحيث أن الدولة تكون الانعكاس السياسي (والأمني) للمواطنين الذين هم أصحاب الوطن. مع التنقل البشري (الهجرة) والاحتلال والاستعمار، تشوشت الحدود في بعض الأحيان بين المواطنين وأصحاب الوطن وتمثيلهم السياسي (الدولة)، او قاد لاعادة تشكل الهويات ومفهوم الوطن، فلم تعد مثلاً أمريكا تمثل مواطنيها الاصليين من الهنود الحمر بل أصبحت دولة تمثّل مهاجريها الجدد، وما تم ذلك الى بعد مئات السنين وتغيير الواقع وفرض اخر جديد وتراجع او قمع نضال أهل البلاد الأصليين، ومع ذلك تبقى قيمياً وطناً للهنود الحمر.
طبعاً هذا لا ينفي أن قيام بعض الدول تم بالقوة وفرض الذات او من خلال ثورات، ولكن بالمجمل العام كانت هذه القوة داخلية وفي سياق صراع وتخلق وطني، ولم تكن مشروعية الدولة محل نقض وإنما الخلاف كان على إدارة النظام السياسي، وفي الأنظمة الديمقراطية التي تبعت إنشاء هذه الدول تم ترتيب ذلك من خلال الانتخابات والدساتير الجامعة المبنية على مشروعية الدولة وأنها تمثل الوطن وتتسع الجميع بقدر واحد ووجود الامكانية الحقيقية للتأثير وتوفر الموافقة على ذلك. في حالات معينة كان هناك نضالات للأقليات من أجل حصولها على استقلال، ولكن ليس استناداً لعدم مشروعية دولة الآخر وإنما مبني على نمو هويات أخرى (وطنية مثلا) يرون بها ممثلة لهم وتختلف عن هوية باقي سكان الدولة (مثال كتالونيا في اسبانيا) لكون الاخرين من الشعوب الاخرى (مثال الإسبان) هم كذلك أصحاب وطن وليسوا إحلاليين أو مستوطنين جدد. وبالمناسبة هذا الفشل في تلكم الدولة التي تحتوي أقليات في احتضان هذه الأقليات يدل على فشل منظومة المواطنة كهوية جامعة و او فشل المواطنة كمنظومة قانونية عادلة و أو عدم وجود عقد اجتماعي صلب وأو غياب مفهوم التراضي واو يدل على تصاعد الهويات الاخرى مثل الوطنية القومية الدينية كهوية مركزية تتجاوز شكل المواطنة. كما أنه بالمقابل وفي حالات أخرى كان طلب لتوحد دول إما لاتساع المواطنة او الهوية الجامعة لتشمل آخرين.
كل هذا النقاش النظري ما جاء إلّا ليقول أننا كفلسطينيين في الداخل لسنا مرتبطين مع اسرائيل بالمفهوم الهوياتي للمواطنة وليس حتى بمفهومها الضيق المبني على عقد اجتماعي يُقره الطرفان بالتراضي، لعدم وجود هذا العقد، وإن كانت علاقتنا مرتبطة ببعد قانوني مستحدث مع إنشاء الدولة (وهو حدث يراه أهل البلاد الأصليين نكبتهم) ومع فرض هذه الدولة لذاتها على أصحاب الوطن. وبالتالي تكمن الحاجة عند هؤلاء الناس –الفلسطينيين- للانصياع للقانون الاسرائيلي لكونه أداة تحفظ الوجود وترتب التعامل مع الدولة كمؤسسة معنية بمعيشة الناس بحكم الواقع، ولكن ليس كهوية ومواطنة وطبعاً أبداً لا تعني السعي لتعزيزها في هذا الاتجاه.
وفي سلسلة العلاقة بين الدولة، الوطن والمواطن – في السياق الاسرائيلي- ينفرط العِقد الأساسي لهذه السلسلة لعدم تحقق العَقد الاجتماعي والذي يعطي الدولة الصلاحية لوجودها ككيان يمثل المواطنين أصحاب الوطن، فيما بنت اسرائيل مشروعيتها على عقد اجتماعي مُختلق مبني على إحلال مواطنين جدد في الوطن وبناء عقد اجتماعي معهم مبني على رضاهم بل ورغبتهم في وجود كيان سياسي لهم في وطن غيرهم.
وبالتالي فإن تعريف اسرائيل لنفسها كدولة يهودية (وديموقراطية) جاء ليجيب على سؤال المواطنة وجعلها تنحصر بالبعد اليهودي. فوفقه تنبع مشروعية الدولة ببعدها الهوياتي اليهودي والذي من دونه لما كانت لتكون قائمة، وعليه فأي حديث عن دولة مواطنة ببعدها الهوياتي العام غير الإثني او حتى الضيق هو نقاش وهمي وغير مجدي لسببين: 1. لأن الدولة- اسرائيل- ما كانت لتكون لولا ارتكازها على الهوية القومية-الدينية اليهودية وأي تراجع في هذا الباب سيضعضع من مشروعيتها وفق ما يراه الإسرائيليون، وبالتالي أبداً لا يرضون بأي بعد هوياتي آخر ومواطنة وهذا يعتبر خطاً أحمر عندهم يميناً او يساراً ومن العبث الحديث عن إمكانية تغييره 2. لأن الفلسطينيين أصحاب البلاد لا يرون بالدولة- الاسرائيلية- تصوراً لتمثيلهم السياسي وممثلة لوطنهم، والمواطنة غير صالحة في سياقها الاسرائيلي نظرياً، قيمياً وأخلاقياً، و”العقد الاجتماعي” مع اسرائيل هو عقد مفروض ومحدود بحدود القانون المستحدث والانصياع له.
وعليه أرى أننا كفلسطينيين في الداخل ليس علينا الانخراط في العملية السياسية البرلمانية – الكنيست- لكونها تمثل الوجه السياسي والقيمي للعقد الاجتماعي الغير قائم بتراضٍ وحق مع الدولة، وأي وجود هناك هو نوع من الإقرار بصدقية هذه المواطنة بما ترتكز عليه وينبثق عنها من معاني، مع تشوه وجودها في حالتنا كما ذكرت سابقاً، بل علينا نقض ذلك والتشكيك به اخلاقياً، قيمياً وسياسياً. كما أن ما علينا فعله هو النضال سياسياً من أجل حقنا وهويتنا ووجودنا وثباتنا المرتبطين بحالنا كأصحاب الوطن وفق حل يضمن الحق مهما طال الزمان. وطبعاً مع حاجة ماسة لبناء مؤسساتي عميق وصياغة برنامج وطني جامع يتفهم واقع الصراع ولا يتنازل عن الثوابت والحق.
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات