إطلاق الحملة الانتخابية لرئيس الأركان السابق بني غانتس تجدد النقاش حول العملية العسكرية الأساسية التي تتماهى معه، عملية «الجرف الصامد». من الأفضل عدم الانفعال أكثر من اللزوم من الفيلم القصير الذي قام حزب غانتس ببثه والذي أحصى بتفاخر الخسائر الفلسطينية في الحرب التي جرت في القطاع في صيف 2014 (الفيلم خلط لهذه الغاية بين من اعتبرهم الجيش إرهابيين والذين لم يتم التأكد من هويتهم). عملية الجرف الصامد لم تكن النجاح المدوي الذي يعرضه الآن رجال الدعاية، بل هي معركة مشبعة بالفشل وخيبة الأمل. في ذلك كان لغانتس شركاء آخرون، الأول هو بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة في حينه وفي الوقت الحالي.
الضباط الذين خدموا في هيئة الأركان تحت إمرة غانتس في حينه لهم الآن موقف موحد جداً: العملية عانت من إعداد معيب جداً وكانت مليئة بالأعطاب. الثلاث سنوات ونصف من الهدوء النسبي الذي ساد على حدود قطاع غزة في أعقاب العملية لا ينسبونه إلى الأداء الناجح للجيش الإسرائيلي ـ مثلما على الحدود الشمالية بعد حرب لبنان الثانية ـ بل إلى علاقات القوة الأساسية بين الطرفين.
عسكرياً، إسرائيل أكثر قوة بكثير من حماس بحيث إن كل معركة تدور بينهما تبقي الطرف الثاني مضروباً ومرتدعاً. ولكن بدون إنجازات عسكرية حاسمة. وفي ظل غياب لعملية سياسية مكملة فإن الاستقرار نسبي ومؤقت.
في القطاع منذ بدأت مسيرات العودة على طول الجدار في آذار الماضي فقد تضعضع الاستقرار تماماً. المشاكل الأساسية معروفة حتى من المعارك الأخرى التي أدارها الجيش على الأقل منذ 2006: حرب لبنان الثانية، والعمليتين في غزة، الرصاص المصبوب في 2008 وعمود السحاب في 2012. في عهد الحروب غير المتناسبة، تجد إسرائيل صعوبة في تحقيق انتصار حاسم. الجرف الصامد ومثلها الحروب السابقة كانت تعادلاً محزناً ومحبطاً.
في جميع هذه الحروب والعمليات واجه الجيش الإسرائيلي عدواً أقل منه بدرجة كبيرة. ولكن العدو (حزب الله في لبنان وحماس في قطاع غزة) كان مستعداً بشكل صعب على الجيش هزيمته: عميقاً في أوساط السكان المدنيين، حيث قسم كبير من النار التي أطلقها وجهت نحو المراكز السكانية في إسرائيل. نقل المعركة إلى أرض العدو، ولو جزئياً، كان له ثمن: خسائر أكبر للجيش الإسرائيلي، في عهد انخفض فيه استعداد الجمهور الإسرائيلي للتسليم بالضحايا، ومراوحة في العمليات العسكرية، وقتل واسع في أوساط مدنيي العدو، الذي أدى إلى الانتقاد الدولي، وغالباً حتى إلى الضغط على الحكومة من أجل إنهاء العملية بأسرع وقت.
في كل الأحوال الجيش الإسرائيلي لم يتلق من المستوى السياسي أي توجيه لاستخدام كل القوة ومحاولة الوصول إلى حسم. لا حكومة اولمرت (مرتين) ولا حكومة نتنياهو (مرتين). في ذروة عملية الجرف الصامد، عندما طلب من الجيش من قبل الكابنت أن يحسب تكاليف سيناريو احتلال القطاع، وقدرها بمئات الجنود القتلى، كان هناك من اهتم بتسريب هذا العدد العسكري المتشائم للقناة الثانية.
في عملية الجرف الصامد رافقت هذه الأمور عقبة سياسية صعبة. الحكومة، كما قال مراقب الدولة في تقريره، لم تفحص أي بدائل استراتيجية لسياسة الحصار الشديدة التي مارستها ضد حماس. وأخطر من ذلك، عندما اشتدت حدة التوتر بين الطرفين بعد اختطاف الفتيان الثلاثة في غوش عصيون في حزيران 2014 رفضت إسرائيل كل الاقتراحات لتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، بل زادت الضغط. بأثر رجعي كان هناك من ندموا على الخطأ، من بينهم وزير الدفاع في حينه موشيه يعلون، الذي انضم في هذا الأسبوع لحزب غانتس.
حوض مثقوب
ما هو دور غانتس والجيش الإسرائيلي في الفشل وخيبة الأمل؟ للإجابة عن ذلك من الجدير العودة إلى مقالات الوداع لرئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت قبل أسبوعين. في كل هذه المقالات ذكرت الأعمال الكثيرة التي قام بها آيزنكوت لإعادة ترميم القوات البرية في السنوات الأخيرة (هناك من يقولون، الجنرال اسحق بريك مثلاً، إنه بقي عمل كثير للقيام به)، لكن من ترك الجيش في هذا الوضع لآيزنكوت؟ على الأقل جزء من الانهيار حدث في ولاية غانتس كرئيس للأركان، تحت إمرة وزيري الدفاع اهود باراك وموشيه يعلون.
الجيش في فترة غانتس لم ينجح في تمرير خطتين متعددتي السنوات، اللتين تمت بلورتهما وأهملتا بسبب الخلافات مع المستوى السياسي وداخل الجيش نفسه. الجيش أيضاً وصل إلى حوض مثقوب في مجال التدريبات، إلى درجة الإعلان عن وقف التدريبات بشكل كامل لنصف سنة، بالتحديد في الأسابيع التي سبقت الحرب في قطاع غزة.
عندها جاءت الحرب.. عملية الجرف الصامد أثبتت الأزمة الضخمة. في 15 تموز، بعد أسبوع من تبادل إطلاق النار مع القطاع (قصف جوي من هنا وصواريخ من هناك) وافقت حكومة نتنياهو على اقتراح مصري لوقف إطلاق النار. ولكن حماس رفضت ذلك. وبعد يومين خرجت خلية لحماس من نفق هجومي إلى داخل أراضي إسرائيل قرب كيبوتس سوفر.
صحيح أن المسلحين الفلسطينيين قتلوا بقصف لسلاح الجو، لكن صورة الحادثة تركت هزة في الرأي العام في إسرائيل وذعراً حقيقياً في بلدات غلاف غزة. بضغط الجمهور وحث فعال من عضو الكابنت الوزير نفتالي بينيت تم اتخاذ قرار في ذلك اليوم بشن عملية برية محدودة لتدمير الأنفاق الهجومية. كانت للجيش الإسرائيلي مشكلة في مستوى القوات البرية، ومشكلة محددة: عدم المعرفة حول تحدي الأنفاق، مثلما تم الكشف في «هآرتس» بشكل خاص بعد الحرب. الجيش تقدم لمعالجة الأنفاق وهو غير مستعد تماماً. المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها كانت جزئية ومحدودة، ولم يكن لدى الوحدات وسائل مناسبة (جزء منها تم ارتجاله في الميدان، والجزء الآخر تم تجنيده بشكل مستعجل من شركات مدنية)، ينقصها تأهيل أساسي للتعامل مع الأنفاق وعملت دون نظرية قتالية منظمة. يعلون قدر في البداية وبشكل علني، أن العثور على الأنفاق وتدميرها سيستمر 2 ـ 3 أيام. عملياً، العملية استمرت أكثر من شهر.
يعلون وغانتس عرفا أن الكابنت يرسل الجيش إلى مهمة هو غير مستعد لها، دون خطة عملياتية مناسبة. لم تكن هناك أي صلة بين الخطة المحدودة لمعالجة أنفاق محدودة وتلك العملية الأشمل نسبياً التي تدحرج إليها الجيش وخلالها، هكذا جاء في التقارير، فقد دمر أكثر من 30 نفقاً هجومياً.
بينيت في إطار هجومه في هذا الأسبوع على غانتس اقتبس أقوال من الكابنت. لقد دعا إلى العمل. يعلون حذر من تحويل تدمير الأنفاق إلى هدف للمعركة، وغانتس قال إن العملية يمكن أن تؤدي إلى احتلال القطاع.
الأهم من ذلك هو ما لم يقله الاثنان: رغم أنه كان يجب عليهما معرفة أن الجيش غير مستعد للمهمة، هما لم يوضحا هذه الأمور للكابنت والحكومة، بل ببساطة أرسلا إلى العملية واعتمدا على أداء القادة في الميدان. واجب الجيش هو أن ينفذ تعليمات المستوى السياسي، لكنه غير معفي من تفسير المعنى المتوقع، النتيجة كانت عملية مترددة وطويلة مع نتائج محدودة، قتل فيها 68 جندياً. المعركة كلها امتدت لخمسين يوماً دون أن تؤدي إلى انتصار على حماس.
مشكلة صعبة أخرى تعلقت بمجال الاستخبارات وهي تفاخر الجيش خلال العملية بأهمية المعلومات الاستخبارية بحجم غير مسبوق للوحدات الهجومية القتالية، ولكن كان ينقصها معلومات استخبارية كافية عن تهديد الأنفاق (رغم أن معظم مسارات الأنفاق المخترقة تم تشخيصها من البداية بواسطة الاستخبارات). الاستخبارات العسكرية أخطأت أيضاً المرة تلو الأخرى في إعطاء توقعات متفائلة حول استعداد حماس للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، التي تبين أنها غير صحيحة خلال كل فترة الحرب. تقرير مراقب الدولة انتقد بصورة معتدلة نسبياً أداء المخابرات في غزة. رئيس الاستخبارات العسكرية، بالمناسبة، كان الجنرال افيف كوخافي ـ هو أيضاً، مثل غانتس، ضابط صادق نتنياهو على تعيينه رئيساً للأركان.
خطورة الفشل تم توضيحها بالكامل في تحقيقات هيئة الأركان الداخلية التي أجراها الجنرال يوسي بخر (حول فشل الأنفاق) والجنرال تمير هايمن (حول استخدام النار) والعميد احتياط لورنس معلم (حول بحث «طول النفس» للجيش في استخدام الذخيرة ومخزون الاحتياط). الجيش الإسرائيلي توجه إلى عملية لم تكن تتناسب مع إعداداته. النار التي أطلقت كانت كثيفة بشكل مخيف، وفي عدد كبير من الحالات كانت النار غير فعالة؛ استخدام الذخيرة والمخزون قرب الجيش بصورة خطيرة إلى الخطوط الحمراء التي وضعها لنفسه، ونتائج التعامل مع الأنفاق الهجومية كانت بعيدة عن الرواية الوردية التي تم تسويقها للجمهور.
أثناء بناء العائق ضد الأنفاق على حدود القطاع في السنتين الأخيرتين تم الكشف عن 17 نفقاً هجومياً قرب الحدود. وهذا يدل كما يبدو على أن تدمير الأنفاق في العملية لم يستكمل. الجيش قام بتفجير عدد منها، وحماس سارعت إلى ترميمها. أنفاق أخرى لم يتم الكشف عنها في العملية، لكن تم العثور عليها فقط في السنوات التالية.
جيش البر وصل إلى عملية الجرف الصامد بوضع متدن. الخطة العملية البديلة التي اقترحهتا والتي تضمنت تبادل اللكمات عن بعد لم توفر الحل للمشكلة في القطاع. وعندما ألقيت مهمة الأنفاق عليه فإن الجيش لم يكن مستعداً لها كفاية، لأنه لم يقدر بصورة صحيحة أهمية التهديد قبل الحرب. إلى كل ذلك أضيف خطأ عدم الإبلاغ: عند الخروج لحرب لبنان الثانية في 2006، معظم الوزراء لم يدركوا خطورة القصورات عندما صادقوا على العملية الهجومية.
ليس بسبب غزة
في مقابلة الوداع مع «كان» سئل آيزنكوت عن رأيه حول الإشارات التي نثرها الليكود في وسائل الإعلام بشأن إظهار الضعف أو انهيار غانتس في عملية الجرف الصامد. «لقد كان رئيس أركان ممتازاً»، أجاب. قال آيزنكوت الذي كان أثناء العملية نائباً لرئيس الأركان، إن أداء غانتس من اليوم الأول حتى اليوم الأخير كان ممتازاً جداً، وبقدر ما كان بالإمكان حتى الآن استيضاحه، فإن قصة الانهيار مرفوضة ومثلها أيضاً الانتقاد الفظ الذي وجهه له من انضم حديثاً لليكود، الوزير والجنرال احتياط يوآف غالنت، («نحن نعرف لماذا يصمت غانتس»).
ضباط آخرون عملوا تحت إمرة غانتس ينضمون إلى هذا الرأي الجيد عن شخصيته. غانتس بقي محبوباً لديهم: منطقي، مستقيم، يعطي الدعم لمن هم تحت إمرته، لا يتم ضغطه بسهولة. عدد منهم يفحصون التصويت له. من أدائه في غزة متأثرون بصورة أقل. عملية الجرف الصامد لن تدخل كتب تاريخ الجيش الإسرائيلي كعملية نموذجية، وربما انتهت أيام العمليات الفاخرة إلى الأبد. (تاريخ نشر المقال: 31/1/19)
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات