يقولُ ابن حزم في كتابهِ طوقُ الحمام، الحبّ ليس بمُنكرٍ في الديانة، ولا بمحظورٍ في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزّ وجل، وقد أحبّ من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، عبد الرحمان بن معاوية، والحكم بن هشام، وعبد الرحمان بن الحكم وشغفه بطروب أم عبد الله ابنه أشهر من الشمس.
مي زيادة، الأديبة الفلسطينية الرقيقة، لُقّبت بفراشة الأدب العربي، لم تتركْ هذه الفراشة الملوّنة مرهفة الأحاسيس أديباً في زمانها إلا واكتوى منها بلوعةِ الحب، فأحبّها أربابُ الفكر والأدب، وعشقها روّاد الطرب والفن، وتدلّل لها زعماء السياسة وهام بها رجال الدين، وهذا الشيخ مصطفى عبد الرازق الأديبُ والفيلسوف الإسلامي ذائع الصيت، تربّع على عرش الأزهر 8 مرات، رغم ما عُرفَ عنه من تديّن ووقار، إلا أن سطوةَ الحبّ تمكّنت من قلبه، فتكسّرت أصفادُ العواطف المتأججة، وتحرّرت نسائم الوجدان معبرة عن ما في الدواخل من أحاسيسٍ فياضة وهيامٍ مُنساب.
وهل تظنّون أن الحبّ لا يعرفُ مغاويرَهُ سوى من توغّل في عُمق الطبيعة بريشته السحرية، أو من أبدعَ بحروفِ قلمه فهام في النّفوس كما يَهِيم البحّارُ في البحر الفسيح، أو من تغنّى بأبيات الشعر المعسول بصوتٍ عذب ترقُّ له القلوب، إنما هو سمةٌ إنسانيةٌ تكمن كالّلؤلؤ المكنونِ في كل من يحمل في صدره قلباً يحس به ويرى من خلاله. وقد وجد الشيخ مصطفى عبد الرازق نفسَهُ هائماً في حبّ مي دونما شعور، في صمتٍ وحياء، تَلبّسَهُ حبٌّ عذري يراهُ مختلفاً تماماً عن حب الآخرين لفراشة الأدب.
ولم يظل عشقه هذا حبيسَ الداخل، بل تجاوزت شرارتُه الخواطر فمضى بقلمهِ في وصفهِ والتعبير عن شوقه وهيامه، وهذا ما يُفسّر التزامَ الشيخ بحضور الصالون الذي تعوّدتْ أن تقيمه مي مع كوكبةٍ من الأدباء والمفكرين في منزلها الكائنِ بشارع عدلي كل يوم ثلاثاء، فكان يجلسُ بين الحضور على استحياءٍ يسْترقُ نظراتِ الإعجاب ويُنصت إلى ما تنثرهُ مي من جميل الشعر وبلاغة النثر، وفي قلبهِ لوعةُ حبٍّ لو تجلّتْ للحضور لأدهشتهم، ولو بدتْ للمكان لأضاءتهُ بالأنوار.
ولأن الحياةَ لا تَسلمُ مِن بأسٍ يفرّقُ الحبيبَ عن حبيبه، ومِنْ سفرٍ يُبعدُ البعيدَ عن قريبه، فقد تركَ سفرُ الشيخ إلى باريس أثراً كبيراً في قلبه وهو الحاضرُ المواظبُ لصالون مي كمواظبته على الصلاة، ولم تتحمل عواطفُه الجياشة مرارةَ البُعد، فكتب إليها من باريس رسالةً تَقرأُ بين سطورها معانيَ الحنين، وتَلمسُ من حروفها نبراتِ الشوق المتدفّق، قال فيها "وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل".
ولنا أن نفهم حبَّ الرافعي لمعشوقتهِ مي، ولنا أن نتفهَّم إعجابَ ولي الدين يكن بها، وهما شاعران ملهمان تتذوّقُ في أشعارهما طعمَ الحب على أصوله، وتتجلى لك أسراره وخباياه، أما أن يَصدرَ كل هذا الحب المتدفق من شيخٍ جليلٍ وقور حافظ لكتاب الله تعالى فهذا مبعث العَجب، ثم لا نلبثُ أن نتيقّن أن الشيخ نفسه من طينةٍ أخرى، فهو محبٌّ للفن بكل دروبه وأصنافه، ومن أشدّ المعجبين بأم كلثوم، كان يقول: الفن يُفيد الإنسان في البحث عن قيم الحياة لأنه إحساس نابض في الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها، وعُرفَ عليه اعتداله وكرهه للتعصّب والتزمّت، وقربه من الترقّق والتذلّل للآداب بشتى أنواعها ومداركها.
وبالتالي فإن انفتاح الشيخ رحمه الله على الثقافات الإنسانية وأنساق التفكير الغربي وتأثّره بفكر محمد عبده رائد الحركة التنويرية والإصلاحية في مصر آنذاك، وتأثّره بالفلسفة الفرنسية وثقافة المجتمع الأوربي بشكلٍ عام، كسَّرَ كل القيود التي من شأنها أن تجعل انتماءه لصرحٍ ديني شهير كالأزهر الشريف حاجزاً في وجه انفعالاته الوجدانية وخفقان قلبه البعيد كل البعد عن النزعات الشهوانية والملذات الحيوانية.
وأثّر رحيلُ مي في الشيخ تأثيراً كبيراً، خصوصا وأن رحيلها جاء بعد معاناةٍ نفسية طويلة تعذّبت على إثرها مي أشدّ العذاب، ورثاها جلُّ الأدباء الذين عايشوها وجالسوها وانبهروا بها أشدّ الانبهار، قال الشيخ في رثاها "شهدنا مشرق مي وشهدنا مغيبها، ولم يكن طويلًا عهد مي، على أن مجدها الأدبي كان طويلًا."
وقد شدّني أحد الكتاب حين وصف حب الشيخ وهيامه بمَي من جهة، والتزامه وتبحّرهِ في علوم الدين والفلسفة الإسلامية من جهة أخرى بقوله: آمن الشيخ إيمانَ المؤمنين، وأحبّ حب العاشقين!. رحم الله الشيخ مصطفى عبد الرازق رحمة واسعة. (مدونات الجزيرة)
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو [email protected] حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)
التعليقات